الثلاثاء، 10 سبتمبر 2013

كان وحده . . صمود ابن حنبل



اعتاد أصحاب التراجم عندما يتكلمون عن أحد العلماء أن يستعينوا ببعض العبارات المنمقة التي لا تخلو من المبالغة أحيانا، مثل: الإمام (فلان بن فلان) وحيد عصره وفريد دهره، ناصر السنة وقامع البدعة، جامع أشتات العلوم، المبرز في المفهوم منها والمنقول . . إلخ، ولكن عند قراءتي لترجمة الإمام أحمد، وجدت نفسي أقل من أن أصفه بكلماتي المتواضعة، إنه الإمام أحمد وكفى.

الإمام أحمد بن حنبل أحد أئمة المذاهب الفقهية الأربعة التي تدرس في العالم الإسلامي، وفي مصر يعتبرون مذهبه – عن جهل – أكثر المذاهب تشددا، وإذا أرادوا وصف إنسان بالتشدد قالوا: حنبلي، وهو إمام الحديث صاحب المسند، ويُروى أنه كان يحفظ ألف ألف حديث (مليون)، وهو الإمام المعروف عنه الزهد والورع.

ولكن تناولي لحياة الإمام لن يتطرق للفقه أو الحديث، وإنما سيكون تركيزي على موقفه من محنة خلق القرآن، التي بدأت أيام المأمون واستمرت في عهد المعتصم.

أحاطت بالمأمون جماعة من المعتزلة زينوا له القول بخلق القرآن، وقد أراد المأمون بدوره أن يحمل الناس جميعا على القول بهذا الرأي، فبعث إلى نائبه ببغداد يخبره بذلك، وقد استدعى النائب جماعة من العلماء والمحدثين، وأخبرهم بقول المأمون بخلق القرآن، فأجابوه؛ خوفا من العزل من وظائفهم أو منعهم من الإفتاء أو منعهم من رواية الحديث على الناس، ولم يمتنع من العلماء عن القول بخلق القرآن إلا القليل، وهنا أخبر النائب الخليفة المأمون بموقف هؤلاء العلماء الذين امتنعوا عن القول بخلق القرآن، فطلب منه المأمون إحضارهم إليه ليقتلهم، فتراجع هؤلاء العلماء عن موقفهم؛ خوفا على حياتهم؛ متأولين قوله تعالى: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" ، ولم يثبت على موقفه من العلماء إلا اثنان: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، وحُمل الاثنان على بعير قد قُيدا بالحبال، في طريقهما إلى المأمون، وقبل أن يصلا إليه: وصلت الأنباء بموت المأمون وتولية المعتصم، فعادا في سفينة كانت تُقِلُّ أسرى الحرب، وفيها مات محمد بن نوح؛ ليواجه أحمد بن حنبل الفتنة منفردا.

لم يكن المعتصم بأرأف على ابن حنبل من المأمون، فسجنه ثمانية وعشرين شهرا، وبعدها أخرجه إليه في دار الخلافة، وهناك دارت المناظرات بين أحمد بن حنبل وبين علماء المعتزلة وقضاة الخليفة، واستمرت تلك المناظرات حوالي ثلاثة أيام، لم يستطيعوا خلالها أن يقيموا عليه حجة، بل علت حجته (رحمه الله)، ثم خَلُصَ رأيهم أنه ضال مضل كافر، وأُخِذَ ليضرب بالسياط، فكان يُضرب ضربا شديدا، فيفقد وعيه ثم يفيق، والمعتصم عند رأسه يطلب منه أن يقول بخلق القرآن، فيرفض، ثم يُضرب، ويفقد الوعي من جديد، ومع كثرة الضرب وفقدان الوعي خاف المعتصم أن يموت الإمام بين يديه، فتركه يعود إلى بيته، واستمر الإمام يُعالج فترة طويلة مما أصابه، حتى إذا شُفي فرح المسلمون بشفائه، وسامَحَ أحمد بن حنبل من آذوه وعذبوه إلا أصحاب البدع، وكان يقول: ماذا تفعل بعذاب أخيك المسلم؟

هذه السطور قطرة من سيرة هذا الرجل العظيم الذي واجه دولة بمفرده، وفي النهاية انتصر بصموده وإرادته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق