الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

الله أكبر



في ذلك الكون الشاسع المبهر يصعد المؤمن قمم الجبال العالية، ويرى البحار وأمواجها المتلاطمة، ويسمع عن ظواهر طبيعية مرعبة ومدهشة، ولكن كل ذلك يصغر في وجدانه أمام قدرة الله وعظمته، فيردد لسانه في خشوع: الله أكبر.

نسمعها ونرددها كثيرا: في الأذان والصلاة والتسبيح والذكر، تلهج ألسنتنا بها وتسمعها الآذان، ولكن قلوبنا لا تقف برهة لتتأمل هذه الكلمة العظيمة: الله أكبر.

ينهمك المسلم في عمله، أو يستريح في بيته، أو يتابع أمرا مهما، ثم يسمع النداء: الله أكبر، وكأن المؤذن يقول له: أيها المسلم، الله أكبر من عملك، وأكبر من راحتك، وأكبر من أي شيء تسعى إليه، يتوقف كل شيء من أجل الله أكبر.

الخوف فطرة في الإنسان، وإنسان بلا خوف إنسان غير طبيعي، ولكن لا ينبغي لهذا الخوف أن يصد المؤمن عن واجباته التي فرضها الله عليه، ففي المعارك ترجف القلوب والأبدان، ولا تسكن إلا عند ذكر الله وقول: الله أكبر.

قول الحق في وجه الظالمين أمر مخيف، فموسى (عليه السلام) قال عندما أمره الله بدعوة فرعون إلى التوحيد، قال: (إني أخاف أن يقتلون)، ولسنا بأية حال من الأحوال أفضل من نبي الله، ولكن: هل تعلم من طغاة العالم أحدا هو من الله أكبر؟

الله أكبر تقطع تعلق المؤمن بالأسباب والعلائق الدنيوية الواهية التي نتشبث بها واهمين، لا تتحقق نتائج أعمالنا على الحقيقة إلا بأمر الله، نبذل ونجتهد بأقصى ما نستطيع، لكن نتيجة أعمالنا ليست في أيدينا، إنها بيد إله قدير (كل يوم هو في شأن) يبدي أمورا ولا يبتديها، وما أمرنا إلا كالدمى المتحركة، تتحرك ولا تؤثر، باستثناء اختيارات الإنسان التي سيحاسب عليها أمام الله يوم القيامة، أما سوى ذلك من الأمور الجسام فأمرها إليه سبحانه وتعالى؛ فما بالنا نحاول ونجتهد ونكرر المحاولات، ثم يصيبنا اليأس والإحباط؟ فلنحاول ونجتهد، ونعلم أن الله أكبر.

  لم يصل إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) إلى مقام الخُلة، وهو أعلى مقامات العبادة، وأرفع منازل السائرين، إلا عندما حقق: الله أكبر، فقد اختار الله على ما سواه، وآثر طاعة الله على حبه الشديد لابنه الذي رزقه الله إياه على الكبر.

الله أكبر تنتظم منازل السائرين كلها: التائبون يتوبون لأن الله أكبر من شهواتهم وأهوائهم، والخائفون يطمئنون ويذهب خوفهم عند سماع الله أكبر، والمتوكلون قطعوا حبائل الأمل في أي شيء إلا الله؛ لأنه أكبر، والمحبون تحقق لديهم أن حبهم لله أشد من أي حب آخر. . إنه الله أكبر.

الله أكبر الله أكبر الله أكبر
لا إله إلا الله
الله أكبر الله أكبر
ولله الحمد

الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

ولو ردوا لعادوا


هذه قصة من الأدب الإنجليزي بعنوان (تجربة) قرأتها في كتاب: (مائة قصة من الأدب الإنجليزي) للأستاذ محمد السباعي، وقد تصرفت في بعض تفاصيلها دون الإخلال بمضمونها والعناصر الأساسية لها.

وهي قصة توضح مدى ما يتعرض له الإنسان من غبن في إهدار وقته وعمره وشبابه، ثم لا يجني من ذلك إلا الندم، حين لا ينفع الندم.

دعا أحد الأطباء المشهورين أصدقاءه القدامى في مكتبه بمنزله العتيق، والمدعوون هم ثلاثة رجال: سياسي وتاجر وقائد جيش وأرملة كانت من أجمل بنات المدينة في شبابها، وكانوا جميعا قد تجاوزوا الثمانين، وقد ظهرت صروف الدهر في انحناءة ظهورهم، وتجاعيد وجوههم، والشيب الذي اشتعل في رءوسهم.

بصعوبة جلس الأربعة أمام مكتب الطبيب، وكان واضحا أنهم لم يلتقوا منذ زمن بعيد، ونظروا إلى الطبيب بعين مِلؤها الفضول عن سرِّ تلك الدعوة، ولم يُطل الطبيب فترة الصمت، وبدأ في الحديث، وقال لهم: لقد دعوتكم اليوم لتشهدوا تجربة لا أظن أنَّ أحدا في العالم قد شهدها، تساءلوا بفتور: وما تلك التجربة التي جعلتك تتذكر أصدقاءك القدامى؟ فقال لهم: لقد توصلت إلى إكسير الشباب.

لم يَبدُ على أي منهم الدهشة أو التعجب مما قيل، وإنما قالت له الأرملة العجوز بحسرة: وهل يعود الشباب؟! فقال الطبيب: كنت أتوقع منكم هذا الرد، ولكن دعونا نجري تجربة صغيرة، وقام إلى كتاب قديم بالمكتبة، ونفض عنه غبار السنين، ثم أخرج من ثناياه وردة ذابلة، وقال لهم: هذه الوردة الذابلة أهدتها لي زوجتي قبل أن تموت منذ عشرات السنين، ثم أحضر إبريق ماء، وصبَّ على الوردة قطرات من الماء، وهنا لم يصدق الأربعة ما رأوه، فقد عادت إلى الوردة نضارتها، كأنما دبَّت فيها الحياة من جديد، ثم سألهم: هل تريدون أن تخوضوا التجربة.

وافق الجميع، وطلب الطبيب من كل واحد منهم أن يشرب جَرعة من الماء، ولا يزيد، ففعلوا، وبدأ الماء يؤثر في أبدانهم التي سرت فيها بعض القوة والنشاط، واختفى شيب رءوسهم واعتدلت ظهورهم، وبدأت التجاعيد تتلاشى شيئا فشيئا، ولكنهم لم يصلوا بعدُ إلى الشباب، وكأنهم سعدوا بتلك النتيجة، ولكنهم أخبروه بأنهم لم يصلوا إلى الشباب كما وعدهم، فقال لهم: مع الجرعة الثانية ستعودون شبابا، ولكن أود أن تمنحوني عهدا: ألا تفعلوا شيئا من أخطاء الشباب وهفواته التي أقمتم عليها سنين طويلة، فعاهدوه وشربوا الجرعة الثانية.

كان تأثير هذا الجرعة أكبر بكثير من سابقتها، وظهرت ملامح الشباب وقوته وعنفوانه عليهم، وبدا كل واحد منهم يتحدث عن طموحاته وآماله التي يطمح في تحقيقها، وعادوا إلى سابق عهدهم من اللهو والعبث، ونسوا تماما عهدهم مع الطبيب، ثم التفت الثلاثة فرأوا العجوز وقد عادت فتاة جميلة، فاتنة كما عرفوها قديما، وأراد كل واحد منهم أن يراقصها، وتنازعوا فيما بينهم، واستحال الأمر إلى تدافع وصخب، ولكن في لحظة ما تعلقت أعينهم بالوردة فإذا هي ذابلة كما كانت؛ فتسربت إليهم مشاعر الإحباط والذهول، وبعد قليل، عاد الشيب ودبَّ الضعف وظهرت التجاعيد، وشعروا بالخجل والأسف لما كانوا عليه من تهور وحمق.

في سورة الأنعام يقول الله تعالى عن أهل النار: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).

الأحد، 22 سبتمبر 2013

اشتراط النفي أوالاستفهام في المبتدأ الوصف



ينقسم المبتدأ إلى قسمين: مبتدأ له خبر، ومبتدأ له فاعل سدَّ مسد الخبر، وبحثنا عن المبتدأ الذي له فاعل سدَّ مسد الخبر؛ إذ اشترط له النحاة مجموعة من الشروط:
1 ) أن يكون مرفوعه اسما ظاهرا أو ضميرا منفصلا (على خلاف بين النحاة).
2 ) أن يتم الكلام بمرفوعه.
3 ) أن يعتمد على نفي أو استفهام، وهذا موضع خلاف البصريين والكوفيين، ومحل بحثنا في تلك السطور.

يشترط البصريون في الوصف أن يعتمد على نفي أو استفام، وهذا الشرط لا يشترطه الأخفش والكوفيون، ويتوسط ابن مالك ويقول باستحسان الاعتماد لا وجوبه، ويذكر أنه مذهب سيبويه.

يستدل الكوفيون بمجموعة من الأدلة، منها قول الشاعر:
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا   مقالة لهبي إذا الطير مرت
والبصريون لا يعتدون بهذا البيت؛ لجواز كون (خبير) خبرا مقدما، ولم يطابق لأن باب فعيل لا يلزم فيه المطابقة، على حدِّ: (والملائكةُ بعدَ ذلكَ ظهير)، وقوله: (هن صديق للذي لم يشب).

كذلك استدل الكوفيون بقول الشاعر:
فخير نحن عند الناس منكم   إذا الداعي المثوب قال يالا
فخير مبتدأ، ونحن فاعل، ولا يكون خبرا مقدما، ونحن مبتدأ؛ لأنه يلزم في ذلك الفصل بمبتدأ بين أفعل التفضيل ومن، وهما كمضاف ومضاف إليه، وإذا جعل نحن مرتفعا بخير على الفاعلية لم يلزم ذلك، لأن فاعل الشيء كجزء منه.
لكنَّ بعضهم زعموا أن (خير) خبر لمبتدأ محذوف تقديره (نحن)، وقوله (نحن) تأكيد للضمير المستتر في خير، ولا يخفى على القارئ ما في هذا التأويل من تهافت؛ إذا كيف يلجأ إلى تقدير شيء وفي الكلام ما يغني عنه.

وفي النهاية أرجح رأي ابن مالك الذي نسبه إلى سيبويه؛ وذلك لأن ما احتج به الكوفيون لا يصل إلى حدِّ الكثرة التي يقاس عليها، ومن جانب آخر فإن تأويل البصريين لتلك النصوص القليلة لم يكن بالقوة بحيث نطمئن إلى عدم صحة الاستدلال بهذه الأدلة.

المراجع
منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل
شرح التسهيل لابن مالك
همع الهوامع للسيوطي

الأربعاء، 18 سبتمبر 2013

من مسائل الخلاف النحوي . . إبدال الظاهر من المضمر بدل كلّ




الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، فهذه مسألة من مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين، وهي من المسائل التي لم ترد في كتاب ابن الأنباري: (الإنصاف في مسائل الخلاف).

يرى جمهور النحاة جواز إبدال الظاهر من ضمير الغائب مطلقا، ويجوز إبدال الظاهر من ضمير المتكلم والمخاطب بدل كلّ إذا كان البدل فيه معنى الإحاطة، كما في قوله تعالى: "تكونُ لنا عيدًا لأولِنا وآخرنا" (المائدة 114)، وكما في قول الشاعر:
فما برِحت أقدامنا في مقامنا    ثلاثتنا حتى أزيروا المنائيا (شرح الأشموني بحاشية الصبان 3/ 129).

فإن لم يكن فيه معنى الإحاطة فمذاهب:
الأول – المنع، وهو مذهب جمهور البصريين.
الثاني – الجواز، وهو قول الأخفش والكوفيين.
الثالث – أنه يجوز في الاستثناء، نحو ما ضربتكم إلا زيدا، وهو قول قُطْرُب. (شرح الأشموني بحاشية الصبان 3/ 129).
أما قول قطرب: إنَّ (زيدا) في (ما ضربتكم إلا زيدا) بدل كلّ، ففيه نظر؛ لأنّ (زيدا) ليس بدل كل من ضمير المخاطبين، بل بدل بعض (شرح الأشموني بحاشية الصبان 3/ 129)، ويصرح الصبان بأنه لا يوجد مثال يكون فيه المستثنى بدل كلّ من المستثنى منه (شرح الأشموني بحاشية الصبان 3/ 129).

أما الأخفش فقد استدل بقوله تعالى: " ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون" (الأنعام 12)؛ إذ جعل الأخفش (الذين خسروا) بدلا من ضمير الخطاب في (ليجمعنكم)، وجمهور البصريين لا يعربونها كذلك، فهم يجعلون (الذين خسروا) نعتا مقطوعا للذمِّ (شرح الكافية 1/ 342).
كذلك استدل الكوفيون بحديث أبي موسى الأشعري "أتينا النبي – صلى الله عليه وسلم – نفرٌ من الأشعريين" (شرح التسهيل لابن مالك 1/ 334).
واستدلوا بقول الشاعر:
بكم قريشٍ كفينا كلّ معضلة  وأم نهج الهدى من كان ضليلا (شرح التصريح 2/ 161).
وسمع الكسائي: إليّ أبي عبد الله (شرح التصريح 2/ 161).
كما قاس الكوفيون ضميري المخاطب والمتكلم على ضمير الغائب، وعلة القياس عدم اللبس، يقول السيوطي عن أدلة الكوفيين: " القياس على ضمير الغائب لأنه لا لبس فيه أيضا، ولذا لم يُنعت، ولو كان البدل لإزالة اللبس لامتنع في الغائب كما امتنع أن يُنعت" (همع الهوامع 2/ 127).

أما البصريون فقد استدلوا على المنع بأنّ البدل ينبغي أن يفيد ما لم يفده المبدل منه، ومن ثَمَّ لم يجز: مررت بزيدٍ رجلٍ، وبدل الكلّ من الكلّ لما كان مدلوله مدلول الأول، فلو أُبدل فيه الظاهر من ضمير المتكلم أو المخاطب، وهما أعرف المعارف كان البدل أنقص من المبدل منه في التعريف، فيكون أنقص منه في الإفادة لأن مدلولهما واحد، وفي الأول زيادة تعريف، بخلاف البعض والاشتمال والغلط؛ فإنّ مدلول الثاني فيهما غير مدلول الأول" (حاشية العليمي على التصريح 2/ 161).
ويعبرون عن هذا بطريقة أخرى، فيقولون: "إن الغرض من البدل البيان، وضمير المخاطب والمتكلم في غاية الوضوح، فلم يحتج إلى بيان" (همع الهوامع 2/ 127).
وقد أجاب الأخفش "بمنع اتحاد المدلولين في بدل الكلِّ؛ إذ لو اتحد مفهومهما لكان الثاني تأكيدا للأول لا بدلا عنه" (همع الهوامع 2/ 127).
أما قول البصريين: "إن الغرض من البدل البيان، وضمير المخاطب والمتكلم في غاية الوضوح، فلم يحتج إلى بيان" فيرده قياس الكوفيين الذي احتجوا به، فإن ضمير الغائب من جملة الضمائر التي هي أعرف المعارف، ومع ذلك يُبدل منه بدل كلّ دون خلاف.

الاثنين، 16 سبتمبر 2013

أنت



للأستاذة/ عنايات أحمد



قرأت قصة قسمتي ونصيبي ضمن مجموعة: (رأيت فيما يرى النائم)، للأستاذ/ نجيب محفوظ، وهي قصة رمزية تحكي عن طفل غريب أسفله مُوَحَّد وأعلاه يتفرع إلى اثنين، فسُمِي أحدهما قسمتي والآخر نصيبي، والاثنان كانا عكس بعضهما في كل شيء: في الطباع، في الصفات، حتى في الشكل؛ فأحدهما (نصيبي) مرح هوائي متمرد، والآخر (قسمتي) جاد عاقل رزين روتيني، وشبّ الاثنان مختلفين في كل شيء، لا يتفقان سوى في النصف الأسفل من الجسم، وكان كل منهما يتمنى أن يفارق الآخر؛ ليعيش حياته كما يحلو له.

وبعد فترة من المعاناة والشجار المتواصل حدث ذلك، ومات نصيبي وعاش قسمتي يحمل جثة أخيه المُحنَّطة، ولكن بموت (نصيبي) عاش (قسمتي) بلا روح .. بلا حماس، فقرر أن يهب نفسه للعمل ... والعمل فقط.

لماذا يا قسمتي: أليس هذا ما كنت تتمناه أن تستقل بحياتك بعيدا عن نصيبي؟
لم أكن أعلم أن نصيبي هو من يهب لحياتي بهجتها وروحها، لم أكن أعلم أن نصيبي قلبي النابض في جسدي. 
وتنتهي القصة وقسمتي ينتظر الموت، فقد مات أحلى ما فيه . . نصيبي.

تلك قصة رمزية تحس أنها تحكي عنك أنت، نعم أنت أيها الإنسان ... فكل منا يحمل في أعماقه شخصيتين مختلفتين في كل شيء: ففيك التمرد وفيك الطاعة، وفيك الحب والكره، والنفس الأمارة واللوامة، والخير والشر، والعقل والجنون، حوت نفسك كل ما في الكون من تناقض، فارضَ بنفسك كما هي، وتعامل مع الآخرين على سجيتك، حتى لا تندم وتصير مثل قسمتي فتعيش بلا روح ... فأنت قسمتي ونصيبي معًا.