يُحكى أنه في قديم الزمان، كان يوجد ملكٌ
ظالم، وكانت له حاشيةٌ من الرجال ينفذون أوامره، ولا يعصونه خوفا من بطشه، أما
الرعية فكانت تعيش في ضيق دائم، وإذا جاء المسافر من بعيد فهو لا يرى أمامه سوى
قصر عالٍ كبير، وحوله أكواخ فقيرة متهالكة.
كان القصر بالطبع للملك أما الأكواخ فللشعب،
وكان الملك لا يهتم بما وصل إليه شعبه من فقر وشقاء، بينما يخص نفسه بكل شيء حتى
الأرض والبيوت والماشية، كل شيء للملك ولاشيء أبدا للشعب، وتدهورت الأحوال من سيئ
إلى أسوأ.
ذات ليلة نام الملك فرأى في المنام أنه
سيموت، فنهض مفزوعا وأخذ يفكر في حاله: هل سيموت ويترك كل هذا الثراء للرعية؟! لا
شك أنهم سيفرحون بموته، وأسرع ينادي وزيره الذي جاء مهرولا خائفا، وأخذ الملك
يحدثه عما رآه في منامه، فحاول الوزير تهدئته، ولكن الملك صاح: لن أموت، ولن أدع
هذا الشعب البائس يفرح بموتي، سأعيش رغم أنفه، وخطرت له فكرة جعلته يقفز ويصيح:
نعم يجب أن أعيش وأعيش، ولو أن كل فرد من الرعية أعطاني يوما من عمره لعشت وملأت
الدنيا بصوتي، فابتسم الوزير وظن أن هذه نكتة، ولكن الملك صاح به: هيا اذهب
للمنادي وأمره أن ينادي في الأسواق والأزقة والشوارع، ويقول: إن الملك لا يريد
اليوم شاة أو بقرة، ولكنه يريد يوما من عمر الكبير والصغير.
أصابت الدهشة وزيره، ولكن الملك أمره بسرعة
التنفيذ، فخرج الوزير يضرب كفا بكف، وأمر المنادي أن ينادي في الناس بما أمر
الملك، خاف المنادي أن يضربه الناس وعرف أنه مقتول مقتول، ولكنه خرج ينادي فيهم
استجابة لأوامر الملك، وتجمهر الناس وسمعوا الأوامر فوقفوا يتحدثون في هذا الأمر
العجيب، ووقف الشحاذ يضحك قائلا: فليأخذ عمري كله فسيعرف معنى البؤس، وقال التاجر:
وأنا يوم من عمري سيعرفه معنى الإفلاس، وقالت السيدة العجوز: وأنا يوم من عمري
سيشقيه بقية عمره، وكما هي العادة فقد خضع الناس للأمر، فكيف يرفضون وهم لا يملكون
حق الرفض؟!
وقف الملك فوق قصره العالي، وهو يراقب الناس
يتوافدون على قصره، وكل واحد يتنازل عن يوم من عمره، وشعر الملك بالفرحة، فهو لا
يستطيع إحصاء عدد الناس، وهذا يؤكد أنه سيعيش آلاف السنين.
انصرف الناس وأصبح لدى الوزير قائمة لا
تنتهي من الأيام التي تنازل عنها أصحابها، أما الملك فبات مرتاح الفؤاد، ومرت
الأيام وهو على ظلمه حتى أصابه مرض شديد أرقده في الفراش، وجعله لا يتحرك، فجاءه
الطبيب وخرج من عنده يهتف للوزير ويقول: إن الملك يحتضر، إنها لحظة الموت المكتوب
التي لا يهرب منها أحد، فسمعه الملك وأسرع ينادي الوزير ويصيح: أنا لن أموت، لن
أموت وتركه الوزير لينام.
نام الملك مبتئسا، حتى طلع عليه النهار فلم
يصدق أنه عاد للحياة، عندها تذكر الأيام التي أخذها من الشعب، وها هو بدأ يستمد
حياته من حياة رعيته، ولكنه شعر بهم ثقيل يجتاحه، فحاول أن يتخلص منه دون فائدة،
فنادى الوزير وحكى له عن ذلك الشعور، فأسرع الوزير يحضر القائمة ويهتف: نعم إنه
اليوم الأول، والذي يخص فلاحا فقيرا أخذنا أرضه غصبا، وهو من وقتها حزين مهموم،
ولم يكن الملك ليتحمل الحزن فقال لوزيره: ردوا عليه أرضه، ردها اليوم قبل الغد،
ردها حتى أستطيع التنفس؛ فأنا أكاد أموت من الهم، فخرج الوزير ومرَّ يوم الملك
الأول.
وجاء اليوم الثاني فاستيقظ الملك، وقبل أن
ينهض من الفراش أحس بآلام شديدة في ظهره، فنادى وزيره، فقال الوزير: لا تقلق يا
مولاي، فهذا اليوم لرجل مسكين جلدناه ظلما بالسياط، وهو من يومها عليل مكسور
الظهر، فصاح الملك: أحضروا له الطبيب الآن حتى أستطيع النهوض من فراشي، ومر اليوم
ثقيلا على الملك حتى أنه كان يتمنى أن تشرق الشمس بأية وسيلة.
وجاء اليوم الثالث فاستيقظ الملك باكيا بدون
سبب، ولم يستطع التوقف عن البكاء، فجاءه الوزير ومعه القائمة، فقال له: إن هذا
اليوم لسيدة عجوز، وابنها الوحيد محجوز لدينا في السجن بلا ذنب، وهي من يومها تبكي
ولا تكف عن النحيب، فأمره الملك بإطلاق سراح ذلك الشاب.
وهكذا توالت الأيام فلم ير الملك نعيما أو
راحة ولم يعد يتفرغ إلا لأحزانه، فصحا من غفوته، وأدرك أن حياة شعبه بائسة،
وأيامهم لا تسر، فلم يستطع أن يتحمل وخاصة حينما أدرك أن القائمة لن تنتهي أبدا،
فاستدعى وزيره وصاح به: لا أريد المزيد، مزق هذه القائمة، حياتي أصبحت لا تطاق،
فقال الوزير: الحل بيدك يا مولاي، فلو أنك رددت المظالم وأعدت للناس حقوقهم لطابت
أيامك كلها.
أيقن الملك أن هذا هو الحل الوحيد، فوافقه
عن طيب خاطر، وبدأت حياة الناس تتغير، هذا استرد أرضه، وذاك خرج من سجنه، وتلك
استردت ماشيتها وأغنامها، وبدأ الناس يتنفسون، كأن المملكة لبست ثياب السعادة
والنعيم، ولم يعد أحد يذكر الملك بسوء.
دخل الوزير على الملك مبتهجا فوجده لا زال
حزينا، فسأله عن سبب حزنه، فقال الملك: لا زلت أشعر بالكآبة؛ فالظلم لم يرفع بعد
عن شعبي، لا تنس أنني أخذت أياما من أعمارهم دون وجه حق، هيا يا وزيري اذهب
للمنادي ودعه يطوف بالناس ويبلغهم أنني لا أريد أيامهم وليبارك الله لهم فيها.
شعر الوزير بالسعادة، وأسرع يعدو ليبلغ
الناس، بينما ابتسم الملك لأول مرة منذ شهور طويلة واستراح، وأخذ المنادي ينادي
بأنه من اليوم لا أحزان ولا عمر يؤخذ إلا بسلطان الحق الذي لا يفوقه سلطان.
تأليف: منال
عزام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق