الخميس، 20 ديسمبر 2012

الخلاف النحوي بين البصرة والكوفة



إن من أكبر المشكلات التي تؤرق المشتغلين بعلم النحو كثرة الخلافات بين النحاة، وبخاصة نحاة البصرة والكوفة، وقد اتسع هذا الخلاف حتى إن ابن الأنباري ألف كتاباً في مسائل الخلاف بين الفريقين.
على أن هذا الخلاف لم يأت من فراغ، وإنما كانت له أسبابه، فلقد كان القياس من أقوى الأسباب التي أوسعت هوة الخلاف بين البصريين والكوفيين، حتى إنه ليمكن إرجاع كل مظاهر الخلاف إلى القياس.
ولم يكن خلافهم في القياس حال كونه أصلاً من أصول النحو، وإنما كان خلافهم فيما يقاس عليه، من حيث:
القلة والكثرة، فقد كان مذهب الكوفيين القياس على القليل والكثير، فهم لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا، وبوبوا عليه، أما البصريون فلديهم اختلاف بين النظر والتطبيق، وسيأتي مزيد بيان عن القلة والكثرة عند الحديث عن الأثر الثالث للبعد الجغرافي عند النحاة.
البيئة المكانية التي يحتج بكلامها، فقد ذكرنا أن البصريين حددوا بيئة مكانية تنحصر في ست قبائل اعتمدوا عليها في التقعيد للعربية، أما الكوفيون فلم يتقيدوا بتلك القبائل، واعتبروا القبائل في مستوى واحد من الاحتجاج، ولكنهم وقعوا فيما وقع فيه البصريون من خلط اللهجات بعضها ببعض مما أدى إلى اختلاط الأحكام واضطرابها.
لقد كان لاختلاف الفريقين حول البيئة المكانية المحددة للتقعيد أثر بالغ في توسيع هوة الخلاف بين الفريقين، ويظهر ذلك في كثير من مسائل الخلاف التي تعددت وتشعبت، وقد اخترنا منها ثلاث مسائل لإثبات هذا الأثر.
المسألة الأولى
العطف على اسم (إن) بالرفع قبل مجيء الخبر
لقد أجاز الكوفيون العطف على اسم (إنّ) بالرفع قبل مجيء الخبر، وتمسك البصريون بالقياس، الذى يقتضى أن يكون المعطوف مثل المعطوف عليه فى النصب.
ويتضح لنا منشأ الخلاف لو علمنا |أن الكوفيين إذ يجوزون العطف بالرفع إنما يحتجون فى ذلك بلهجة من اللهجات العربية، ويبدو أن تلك اللهجة ليست من اللهجات الست التى يوثقها النحاة البصريون فكان منهم أن خطئوا تلك اللهجة، يقول سيبويه: "اعلم أن ناسا من العرب يغلطون، فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون وإنك وزيد ذاهبان ".
ويبدوا أيضاً أن تلك اللهجة التى رفض نحاة البصرة الاحتجاج بها- وجدت لها سندا فيما ورد من قراءات قرآنية، مثل قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ".
وكذلك فيما ورد من شعر عربى، مثل قول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحلة           فإنى وقيار بها لغريب.
وطبعي أن يؤول البصريون الآية والشاهد الشعري؛ لأنهم لا يحتجون بتلك اللهجة.
ومن هنا كان اختلاف النحاة حول البعد الجغرافى في التقعيد سببا من أسباب الخلاف النحوى.
المسألة الثانية
عمل إنْ النافية عمل ليس
إعمال إن النافية عمل ليس لغة أهل العالية، فيقولون: "إنْ أحدٌ خيرًا من أحد إلا بالعافية، واختلف النحاة فى الاعتداد بتلك اللهجة ونتيجة لهذا الخلاف اختلف رأيهم فى القضية، فذهب الكسائى وأكثر الكوفيين وابن السراج والفارسى وابن جنى إلى الجواز، وذهب الفراء والبصريون إلى المنع.
وبهذه اللغة قرأ سعيد بن جبير: "إن الذين تدعون من دون الله عبادًا أمثالكم".
واحتج  الكسائى بقول الشاعر: "إن هو مستوليا على أحد إلا على أضعف المجانين".
المسألة الثالثة
كسر فاء الثلاثى المضعف عند البناء للمجهول
أوجب الجمهور ضم فاء الثلاثي المضعف عند البناء للمجهول، فيقال : شُدَّ، ومُدَّ، ولا يجوز سوى الضم.
وأجاز الكوفيون كسر فاء الثلاثى المضعف إذا بنى للمجهول، وهو لغة بنى ضبة وبعض تميم، وبها قرأ علقمة ويحيى بن وثاب: "ولو رِدوا لعادوا لما نهوا عنه"،  و"هذه بضاعتنا رِدت إلينا ".  
ويظهر من خلال تلك المسائل الثلاث أثر الخلاف حول تحديد البيئة المكانية المدروسة- على النحو العربى، إذا أدى هذا الخلاف الأصولى إلى خضم هائل من الخلافات فى الفروع، حتى إنه صار من النادر أن ترى مسألة من مسائل النحو لا تتعدد فيها آراء النحاة وتتشعب مذاهبهم.

المصادر والمراجع
الضرورة الشعرية، د/ محمد حماسة عبد اللطيف
الاقتراح للسيوطي
الانصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري
الكتاب لسيبويه
شرح الأشموني على ألفية ابن مالك
شرح التصريح على التوضيح للشيخ/ خالد الأزهري

هناك تعليق واحد: