الخميس، 27 ديسمبر 2012

سارق الأيام



يُحكى أنه في قديم الزمان، كان يوجد ملكٌ ظالم، وكانت له حاشيةٌ من الرجال ينفذون أوامره، ولا يعصونه خوفا من بطشه، أما الرعية فكانت تعيش في ضيق دائم، وإذا جاء المسافر من بعيد فهو لا يرى أمامه سوى قصر عالٍ كبير، وحوله أكواخ فقيرة متهالكة.

كان القصر بالطبع للملك أما الأكواخ فللشعب، وكان الملك لا يهتم بما وصل إليه شعبه من فقر وشقاء، بينما يخص نفسه بكل شيء حتى الأرض والبيوت والماشية، كل شيء للملك ولاشيء أبدا للشعب، وتدهورت الأحوال من سيئ إلى أسوأ.

ذات ليلة نام الملك فرأى في المنام أنه سيموت، فنهض مفزوعا وأخذ يفكر في حاله: هل سيموت ويترك كل هذا الثراء للرعية؟! لا شك أنهم سيفرحون بموته، وأسرع ينادي وزيره الذي جاء مهرولا خائفا، وأخذ الملك يحدثه عما رآه في منامه، فحاول الوزير تهدئته، ولكن الملك صاح: لن أموت، ولن أدع هذا الشعب البائس يفرح بموتي، سأعيش رغم أنفه، وخطرت له فكرة جعلته يقفز ويصيح: نعم يجب أن أعيش وأعيش، ولو أن كل فرد من الرعية أعطاني يوما من عمره لعشت وملأت الدنيا بصوتي، فابتسم الوزير وظن أن هذه نكتة، ولكن الملك صاح به: هيا اذهب للمنادي وأمره أن ينادي في الأسواق والأزقة والشوارع، ويقول: إن الملك لا يريد اليوم شاة أو بقرة، ولكنه يريد يوما من عمر الكبير والصغير.

أصابت الدهشة وزيره، ولكن الملك أمره بسرعة التنفيذ، فخرج الوزير يضرب كفا بكف، وأمر المنادي أن ينادي في الناس بما أمر الملك، خاف المنادي أن يضربه الناس وعرف أنه مقتول مقتول، ولكنه خرج ينادي فيهم استجابة لأوامر الملك، وتجمهر الناس وسمعوا الأوامر فوقفوا يتحدثون في هذا الأمر العجيب، ووقف الشحاذ يضحك قائلا: فليأخذ عمري كله فسيعرف معنى البؤس، وقال التاجر: وأنا يوم من عمري سيعرفه معنى الإفلاس، وقالت السيدة العجوز: وأنا يوم من عمري سيشقيه بقية عمره، وكما هي العادة فقد خضع الناس للأمر، فكيف يرفضون وهم لا يملكون حق الرفض؟!

وقف الملك فوق قصره العالي، وهو يراقب الناس يتوافدون على قصره، وكل واحد يتنازل عن يوم من عمره، وشعر الملك بالفرحة، فهو لا يستطيع إحصاء عدد الناس، وهذا يؤكد أنه سيعيش آلاف السنين.

انصرف الناس وأصبح لدى الوزير قائمة لا تنتهي من الأيام التي تنازل عنها أصحابها، أما الملك فبات مرتاح الفؤاد، ومرت الأيام وهو على ظلمه حتى أصابه مرض شديد أرقده في الفراش، وجعله لا يتحرك، فجاءه الطبيب وخرج من عنده يهتف للوزير ويقول: إن الملك يحتضر، إنها لحظة الموت المكتوب التي لا يهرب منها أحد، فسمعه الملك وأسرع ينادي الوزير ويصيح: أنا لن أموت، لن أموت وتركه الوزير لينام.

نام الملك مبتئسا، حتى طلع عليه النهار فلم يصدق أنه عاد للحياة، عندها تذكر الأيام التي أخذها من الشعب، وها هو بدأ يستمد حياته من حياة رعيته، ولكنه شعر بهم ثقيل يجتاحه، فحاول أن يتخلص منه دون فائدة، فنادى الوزير وحكى له عن ذلك الشعور، فأسرع الوزير يحضر القائمة ويهتف: نعم إنه اليوم الأول، والذي يخص فلاحا فقيرا أخذنا أرضه غصبا، وهو من وقتها حزين مهموم، ولم يكن الملك ليتحمل الحزن فقال لوزيره: ردوا عليه أرضه، ردها اليوم قبل الغد، ردها حتى أستطيع التنفس؛ فأنا أكاد أموت من الهم، فخرج الوزير ومرَّ يوم الملك الأول.

وجاء اليوم الثاني فاستيقظ الملك، وقبل أن ينهض من الفراش أحس بآلام شديدة في ظهره، فنادى وزيره، فقال الوزير: لا تقلق يا مولاي، فهذا اليوم لرجل مسكين جلدناه ظلما بالسياط، وهو من يومها عليل مكسور الظهر، فصاح الملك: أحضروا له الطبيب الآن حتى أستطيع النهوض من فراشي، ومر اليوم ثقيلا على الملك حتى أنه كان يتمنى أن تشرق الشمس بأية وسيلة.

وجاء اليوم الثالث فاستيقظ الملك باكيا بدون سبب، ولم يستطع التوقف عن البكاء، فجاءه الوزير ومعه القائمة، فقال له: إن هذا اليوم لسيدة عجوز، وابنها الوحيد محجوز لدينا في السجن بلا ذنب، وهي من يومها تبكي ولا تكف عن النحيب، فأمره الملك بإطلاق سراح ذلك الشاب.

وهكذا توالت الأيام فلم ير الملك نعيما أو راحة ولم يعد يتفرغ إلا لأحزانه، فصحا من غفوته، وأدرك أن حياة شعبه بائسة، وأيامهم لا تسر، فلم يستطع أن يتحمل وخاصة حينما أدرك أن القائمة لن تنتهي أبدا، فاستدعى وزيره وصاح به: لا أريد المزيد، مزق هذه القائمة، حياتي أصبحت لا تطاق، فقال الوزير: الحل بيدك يا مولاي، فلو أنك رددت المظالم وأعدت للناس حقوقهم لطابت أيامك كلها.

أيقن الملك أن هذا هو الحل الوحيد، فوافقه عن طيب خاطر، وبدأت حياة الناس تتغير، هذا استرد أرضه، وذاك خرج من سجنه، وتلك استردت ماشيتها وأغنامها، وبدأ الناس يتنفسون، كأن المملكة لبست ثياب السعادة والنعيم، ولم يعد أحد يذكر الملك بسوء.

دخل الوزير على الملك مبتهجا فوجده لا زال حزينا، فسأله عن سبب حزنه، فقال الملك: لا زلت أشعر بالكآبة؛ فالظلم لم يرفع بعد عن شعبي، لا تنس أنني أخذت أياما من أعمارهم دون وجه حق، هيا يا وزيري اذهب للمنادي ودعه يطوف بالناس ويبلغهم أنني لا أريد أيامهم وليبارك الله لهم فيها.

شعر الوزير بالسعادة، وأسرع يعدو ليبلغ الناس، بينما ابتسم الملك لأول مرة منذ شهور طويلة واستراح، وأخذ المنادي ينادي بأنه من اليوم لا أحزان ولا عمر يؤخذ إلا بسلطان الحق الذي لا يفوقه سلطان. 


تأليف: منال عزام

الخميس، 20 ديسمبر 2012

الخلاف النحوي بين البصرة والكوفة



إن من أكبر المشكلات التي تؤرق المشتغلين بعلم النحو كثرة الخلافات بين النحاة، وبخاصة نحاة البصرة والكوفة، وقد اتسع هذا الخلاف حتى إن ابن الأنباري ألف كتاباً في مسائل الخلاف بين الفريقين.
على أن هذا الخلاف لم يأت من فراغ، وإنما كانت له أسبابه، فلقد كان القياس من أقوى الأسباب التي أوسعت هوة الخلاف بين البصريين والكوفيين، حتى إنه ليمكن إرجاع كل مظاهر الخلاف إلى القياس.
ولم يكن خلافهم في القياس حال كونه أصلاً من أصول النحو، وإنما كان خلافهم فيما يقاس عليه، من حيث:
القلة والكثرة، فقد كان مذهب الكوفيين القياس على القليل والكثير، فهم لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا، وبوبوا عليه، أما البصريون فلديهم اختلاف بين النظر والتطبيق، وسيأتي مزيد بيان عن القلة والكثرة عند الحديث عن الأثر الثالث للبعد الجغرافي عند النحاة.
البيئة المكانية التي يحتج بكلامها، فقد ذكرنا أن البصريين حددوا بيئة مكانية تنحصر في ست قبائل اعتمدوا عليها في التقعيد للعربية، أما الكوفيون فلم يتقيدوا بتلك القبائل، واعتبروا القبائل في مستوى واحد من الاحتجاج، ولكنهم وقعوا فيما وقع فيه البصريون من خلط اللهجات بعضها ببعض مما أدى إلى اختلاط الأحكام واضطرابها.
لقد كان لاختلاف الفريقين حول البيئة المكانية المحددة للتقعيد أثر بالغ في توسيع هوة الخلاف بين الفريقين، ويظهر ذلك في كثير من مسائل الخلاف التي تعددت وتشعبت، وقد اخترنا منها ثلاث مسائل لإثبات هذا الأثر.
المسألة الأولى
العطف على اسم (إن) بالرفع قبل مجيء الخبر
لقد أجاز الكوفيون العطف على اسم (إنّ) بالرفع قبل مجيء الخبر، وتمسك البصريون بالقياس، الذى يقتضى أن يكون المعطوف مثل المعطوف عليه فى النصب.
ويتضح لنا منشأ الخلاف لو علمنا |أن الكوفيين إذ يجوزون العطف بالرفع إنما يحتجون فى ذلك بلهجة من اللهجات العربية، ويبدو أن تلك اللهجة ليست من اللهجات الست التى يوثقها النحاة البصريون فكان منهم أن خطئوا تلك اللهجة، يقول سيبويه: "اعلم أن ناسا من العرب يغلطون، فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون وإنك وزيد ذاهبان ".
ويبدوا أيضاً أن تلك اللهجة التى رفض نحاة البصرة الاحتجاج بها- وجدت لها سندا فيما ورد من قراءات قرآنية، مثل قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ".
وكذلك فيما ورد من شعر عربى، مثل قول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحلة           فإنى وقيار بها لغريب.
وطبعي أن يؤول البصريون الآية والشاهد الشعري؛ لأنهم لا يحتجون بتلك اللهجة.
ومن هنا كان اختلاف النحاة حول البعد الجغرافى في التقعيد سببا من أسباب الخلاف النحوى.
المسألة الثانية
عمل إنْ النافية عمل ليس
إعمال إن النافية عمل ليس لغة أهل العالية، فيقولون: "إنْ أحدٌ خيرًا من أحد إلا بالعافية، واختلف النحاة فى الاعتداد بتلك اللهجة ونتيجة لهذا الخلاف اختلف رأيهم فى القضية، فذهب الكسائى وأكثر الكوفيين وابن السراج والفارسى وابن جنى إلى الجواز، وذهب الفراء والبصريون إلى المنع.
وبهذه اللغة قرأ سعيد بن جبير: "إن الذين تدعون من دون الله عبادًا أمثالكم".
واحتج  الكسائى بقول الشاعر: "إن هو مستوليا على أحد إلا على أضعف المجانين".
المسألة الثالثة
كسر فاء الثلاثى المضعف عند البناء للمجهول
أوجب الجمهور ضم فاء الثلاثي المضعف عند البناء للمجهول، فيقال : شُدَّ، ومُدَّ، ولا يجوز سوى الضم.
وأجاز الكوفيون كسر فاء الثلاثى المضعف إذا بنى للمجهول، وهو لغة بنى ضبة وبعض تميم، وبها قرأ علقمة ويحيى بن وثاب: "ولو رِدوا لعادوا لما نهوا عنه"،  و"هذه بضاعتنا رِدت إلينا ".  
ويظهر من خلال تلك المسائل الثلاث أثر الخلاف حول تحديد البيئة المكانية المدروسة- على النحو العربى، إذا أدى هذا الخلاف الأصولى إلى خضم هائل من الخلافات فى الفروع، حتى إنه صار من النادر أن ترى مسألة من مسائل النحو لا تتعدد فيها آراء النحاة وتتشعب مذاهبهم.

المصادر والمراجع
الضرورة الشعرية، د/ محمد حماسة عبد اللطيف
الاقتراح للسيوطي
الانصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري
الكتاب لسيبويه
شرح الأشموني على ألفية ابن مالك
شرح التصريح على التوضيح للشيخ/ خالد الأزهري

الجمعة، 14 ديسمبر 2012

اللغة المشتركة


اللغة "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" أو: "نظام من الرموز الصوتية المنطوقة تستخدمه جماعة معينة من الناس بهدف الاتصال وتحقيق التعاون فيما بينهم".
تلك البيئة التى تستخدم اللغة تنقسم إلى بيئات صغرى، وتلك البيئات تستخدم كل منها لهجة تختلف عن لهجة البيئة الأخرى، ويشترك فى هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة".
والعلاقة بين اللغة واللهجة هى العلاقة بين العام والخاص؛ فاللغة: " هى البيئة الشاملة التى تتألف من عدة لهجات".
إن علاقة أى لهجة بأخرى يحكمها نوعان من العوامل: عوامل انقسام، وعوامل توحد، فمن عوامل الانقسام: "سوء الاتصال أو صعوبته، وعدم الاختلاط الاجتماعى لأى سبب من الأسباب"، ومن عوامل التوحد: وقوع تلك البيئات الصغرى تحت سلطة مركزية واحدة، ورحلات الحج، والزواج المختلط، كما تقوم المنتديات الأدبية بدور مهم فى التوحيد والتقريب بين اللهجات.
إن وجود هذين النوعين من العوامل -دون تغلب أحدهما على الآخر- أدى إلى ظهور ما يسمى باللغة المشتركة، أو ما نصطلح على تسميته (باللغة الفصحى).
ولكن، كيف نشأت هذه اللغة المشتركة؟
لقد كان لكل قبيلة لهجة خاصة بها؛ أدى إلى وجود تلك اللهجات ما كان يفصل بين تلك القبائل من جبال ومرتفعات، ولكن عزلتهم لم تكن عزلة تامة، بل تيسرت لهم سبل الاتصال من حج وتجارة وأسواق أدبية، ويبدو أن هذا الأخير كان له دور بارز فى ظهور اللغة المشتركة، فقد كان "الشعراء والخطباء هم الذين خلقوا هذه اللغة الأدبية المشتركة"؛ فلكي يؤدى الخطيب رسالته كاملة واضحة، وليترك سامعيه مشدوهين معجبين بلباقته كان عليه أن يتحاشى تلك الصفات المحلية التى تتصل بلهجة من اللهجات" ، وهذا ما حدث؛ " لهذا توحدت القبائل فى لغة أدبية ممتازة مختارة الألفاظ يعمد إليها الشاعر والخطيب كلما عَنَّ له القول".
ونخلص من ذلك إلى أن اجتماع عوامل الانقسام وعوامل التوحد أدى إلى وجود مستويين من مستويات اللغة:
الأول- مستوى اللهجات ، ويستعمل فى شئون الحياة اليومية.
الثانى - مستوى الفصحى، ويستعمل فى المواقف الجدية، والعامة من: خطابة، أو تأليف، أو محادثة.
وكانت هذه الفصحى لغة الأدب الجاهلى، ثم القرآن الكريم بعد ذلك.
لقد نشأت الفصحى -أول ما نشأت- فى أسواق العرب، التى كانت تقام -فى الغالب- فى شهور الحج، و بالقرب من مكة، وكانت وفود العرب تحضر تلك الأسواق، ثم تعود إلى مواطن قبائلها حاملة معها اللغة المشتركة؛ ولذلك فقد كانت تلك اللغة تستخدم -فى المواقف الجدية- داخل محيط القبيلة، مثل مجالات التشاور والحروب وأماكن العبادة.
ولا يعنى استخدام اللغة المشتركة بالقرب من قريش -أن تلك اللغة هى لهجة قريش، كما يرى بعض العلماء، وإنما الفصحى حصيلة لهجات عديدة "فلا يحق لنا أن نقول مثلا، إن اللغة المشتركة هى لغة قريش، أو تميم، أو غيرهما من قبائل العرب، بل هى مزيج من كل هذا، تكونت له شخصيته وكيانه وأصبح مستقلا عن اللهجات".
مراجع ومصادر
الخصائص لابن جني
مدخل إلى اللغة، د/ البيلي
في اللهجات العربية، د/ إبراهيم أنيس
علم اللغة الاجتماعي، د/ كمال بشر
مدخل إلى اللغة، د/ محمد حسن عبد العزيز
المستوى اللغوي، د/ محمد عيد
فصول في فقه العربية، د/ رمضان عبد التواب
فقه اللغة، د/ علي عبد الواحد وافي

الخميس، 13 ديسمبر 2012

النحو بين المعيارية والوصفية


أنعم الله على الإنسان بنعم كثيرة، لا تعد ولا تحصى، ومن تلك النعم نعمة البيان، قال تعالى: {الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان}.
وتلك النعمة من شأنها أن تحقق الاتصال بين الإنسان وأفراد جنسه؛ حتى يحدث التعاون على تعمير الأرض.
لذلك عرف ابن جني اللغة بأنها "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"، فاللغة من حيث هي: أصوات، وصيغ، وتراكيب لا قيمة لها إلا بقدر ما تحققه من اتصال بين الجماعة التي تستخدم تلك اللغة.
إن قيمة اللغة في تمسك أهلها بها، ورواجها بينهم، وتداولها على ألسنتهم، واحترامهم إياها، وثقتهم بها في حمل أفكارهم ومعتقداتهم، والتعبير عن انفعالاتهم وعواطفهم، واستخدامهم إياها في كل ما يعِنُّ لهم من شئون الحياة السهلة، أو القضايا الفلسفية المعقدة، كما تبدو قيمتها كذلك فيما تعبر من رصيد فكري وحضاري كبير".
إن القيمة الحقيقية للغة تنبعث من مكانتها لدى المتكلمين بها، وتلك المكانة تنبعث بدورها من مؤثرات دينية وقومية وحضارية، وتمتد تلك المؤثرات إلى منهج الدراسة نفسه؛ حيث إن تلك المؤثرات تتناسب طردياً مع النزعة المعيارية في دراسة اللغة.
إن بروز النزعة المعيارية في النحو العربي لم يأت من قِبل النحاة، بل أتى بفعل تلك المؤثرات، وكان دورهم أن توسعوا في تطبيق هذا المنهج، وحكموا قواعدهم في الكلام العربي؛ الأمر الذي دفع بعض النحاة إلى تخطئة العرب في بعض المواطن.
لقد نشأ النحو– في مجمله – معياريا، غايته دفع اللحن الذي بدأ يشيع على ألسنة الموالي وبعض العرب، وكان من الممكن ألا يعبأ أحد بهذا اللحن لولا اعتزاز المسلمين بلغتهم.
إن القول بغلبة النزعة المعيارية لا يعنى خلو  النحو العربى من بعض الملامح الوصفية، التى تتمثل في: رحلة النحاة إلى البادية، ومشافهتهم الأعراب، وتحديد بيئة زمانية، وأخرى مكانية لدراسة اللغة. كما ذكر الدكتور تمام حسان، إلا أنه يأخذ عليهم أمرين:
(الأول) دراسة اللغة خلال ثلاثة قرون، ولا شك أن اللغة مرت خلال تلك القرون بمراحل عدة فى: أصواتها، وصرفها، ونحوها.
(الثانى) الخلط بين لهجات متعددة، وأخذهم اللغة عن ست قبائل فقط، ثم خلطهم بين مرويات تلك القبائل.
إن تلك المآخذ على الملامح الوصفية في منهج النحاة دليل على أن هذا الوصف ما هو إلا بداية للتقعيد المعياري؛ لذلك، لكي نفهم معنى الوصفية عند النحاة لا بد أن نفهمها في ظل هذين الاعتبارين:
(الأول) فهم الوصف بمعناه العام، هو: وصف الواقع اللغوى من خلال بيئة زمانية وأخرى مكانية، دون ربطه بالمنهج الوصفى أو الشكلى الذى أسس فى مطلع القرن العشرين.
(الثاني) الوصفية - بمعناها السابق- كانت مرحلة من مراحل المنهج ولم تشكل طبيعة للمنهج أو روحا له.
مراجع ومصادر:
الخصائص لابن جني
بحوث ومقالات في اللغة، د/ رمضان عبد التواب
مدخل إلى علم الغة، د/ رمضان عبد التواب
إنباه الرواة لابن الأنباري
اللغة بين المعيارية والوصفية، د/ تمام حسان

الأربعاء، 12 ديسمبر 2012

إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي





الناس في تلك الحياة صنفان: الأول، أصحاب الهمم العالية، التي يبذلون في سبيلها كل ما يستطيعون من مال ووقت وصحة، وربما يضحون بحياتهم من أجل تلك الغايات السامية، والصنف الثاني، أبناء الدنيا الذين رضوا بالطعام والشراب، وهؤلاء ربما يعيشون أعمارا مديدة، ولكنهم يموتون دون أن يتركوا بصماتهم في تلك الدنيا التي عاشوا من أجلها.

ولد أبو القاسم الشابي في يوم الأربعاء في الرابع والعشرين من فبراير عام 1909م ، في مدينة توزر في تونس .

مات ولما يبلغ الخامسة والعشرين بعد كفاح مرير مع مرض القلب .

يقول عنه الدكتور شوقي ضيف : إنه فلتة من فلتات عصرنا الحديث في حدة الإحساس وعمقه .
         
إذا الشَّعْبُ يومًا أرادَ الحياة

ولا بُدَّ للَّيلِ أنْ ينجَـــــــــــــــــــــلِي

ومنْ لمْ يُعانقْهُ شَوقُ الحياة

كذلكَ قالتْ لِيَ الكائنـــــــــاتُ

إذا ما طمَحْتُ إلى غــــــــايةٍ

ولمْ أَتَخَوَّفْ وُعُورَ الشِّعابِ

ومنْ لا يحبُّ صُعودَ الجِبالِ

وقالتْ لِيَ الأرضُ لمَّا تساءلـ

أُبارِكُ في النَّاسِ أهلَ الطُّموحِ

وألعنُ منْ لا يماشي الزمــــــانَ

هوَ الكونُ حيٌّ يحبُّ الحـــــياةَ


فلا بُدَّ أنْ يستَجِيبَ القَــــــــــدَرْ

ولا بُدَّ للقَيْدِ أنْ ينكَــــــــــــــــــــــسِرْ

تبَخَّرَ في جوِّها واندَثَـــــــــــــــــرْ

وحدَّثني رُوحُها المُستَتِر :

لَبِسْتُ المُنَى وتركتُ الحَذَرْ

ولا كبَّةَ اللهَبِ المُسْــــــــــــــــتَعِرْ

يعِشْ أبدَ الدَّهْرِ بينَ الحُفَرْ

ـتُ : يا أمُّ، هل تكرهينَ البَشَرْ؟

ومنْ يستَلِذُّ ركــــــــــــــــــــــــوبَ الخَطَرْ

ويقنَعُ بالعيشِ عيشِ الحُــــــــــــــــجَرْ

ويحْتَقِرُ الميِّتَ المُنْدَثِــــــــــــــــــــــــــــــــــرْ