من
يقرأ القرآن يلحظ أنَّ القصص القرآني يشغل مساحة كبيرة منه، وليس ذلك لتسلية
القراء والحُفاظ، وإنما سِيق هذا القصص ليكون عبرة للمؤمنين، ومُؤدبًا لهم، ولِمَا
للقصص من تأثير في التربية والتهذيب، بالإضافة إلى أن الوعظ المباشر قد يبعث على
الملل ويثير في النفس نعرات العزة والكبرياء، أما القصص فيتيح للعقل البشرى أن
يذهب في فهم المضمون كل مذهب، فتتعدد الدروس المستفادة من القصة بتعدد أفهام الناس
وثقافاتهم.
قام
موسى (عليه السلام) يومًا خطيبا في بنى إسرائيل، فسأله أحدهم: يا موسى هل أنت أعلم
أهل الأرض؟ فقال (عليه السلام): نعم، فعاتبه الله (تعالى)؛ إذ لم ينسب العلم إليه،
وأمره أن يبحث عن عبد من عباد الله الصالحين (الخضر) أوتي من العلم ما لم يؤته
موسى، وجدَّ النبي الكريم في البحث عن هذا الرجل الصالح حتى وجده، وبعد محادثة
قصيرة بينهما أخبر الخضرُ موسى (عليه السلام) أن لديه علمًا ليس عند موسى، وأن
موسى لديه علم ليس عند الخضر.
طلب
موسى (عليه السلام) من الخضر أن يصحبه فترة من الزمن ليتعلم من علمه، فرد عليه
الخضر بأن ما لديه من العلم قد لا يصبر عليه، ومع إصرار النبي الكريم وافق الخضر
على ألا يسأله عن شيء مما يراه حتى يخبره في الوقت المناسب.
ركب
موسى والخضر سفينة، ويبدو أن أصحاب السفينة كانوا على معرفة بالخضر وصلاحه فلم
يأخذوا أجرًا، ومع ذلك شرع الخضر بعد قليل في خلع أحد ألواح السفينة، فتعجب موسى
(عليه السلام) وذكَّره الخضر بما اتفقا عليه.
انطلقا
حتى قابلا غلامًا فقتله الخضر، فأنكر عليه موسى؛ لأن القتل من كبائر الذنوب،
فذكَّره الخضر، ثم سارا.
وصلا
إلى قرية، وطلبا من أهل القرية أن يقوموا معهما بواجبات الضيافة، فلم يجدا إلا
الصدَّ والمنع، ومع ذلك شرع الخضر في إصلاح جدار داخل تلك القرية، ثم انصرفا،
فتعجب النبي الكريم، وهنا بدأ الخضر في تفسير تلك الأمور الغامضة للنبي الكريم.
أما
السفينة فإن هذا اللوح المكسور أنقذها من استيلاء أحد الملوك عليها، فقد كان هذا
الظالم يستولي على كل سفينة صالحة تسير في البحر، وأما الغلام فقد كان عاقًا ومن
الممكن أن يزيد من عناء والديه وشقائهما، وأما الجدار فتحته كنز ليتيمين، وقد بناه
لهما ليستخرجاه إذا كبرا.
الدرس
الرئيس في تلك القصة والذي هو سبب ورودها هو نسبة العلم إلى الله، وأن العلم قِسمة
بين بني البشر، لا يختص به أحد دون غيره؛ لدى العالم علم غزير ليس لدى الفلاح
الأمي، ولكن هذا الفلاح الأمي لديه من العلم ما ليس لذلك العالم.
التواضع
كذلك من الدروس المستفادة من تلك القصة؛ فموسى الكليم، أحد الرسل أولي العزم لم
يتكبر على تلقي العلم عن أحد عباد الله الصالحين (الخضر) فصحبه، وكان منه بمنزلة
التلميذ من الأستاذ.
قضاء
الله وقدره دائما خير، ربما نرى الأمر برؤيتنا المحدودة وعقولنا القاصرة فنظن أنه
شر لَحِق بنا، وحقيقته خيرٌ محض أراده الله لنا، قال (تعالى) في سورة النور: (إن
الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم، لا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم)، وهكذا كانت
حادثة الإفك مميزة للمؤمنين عن المنافقين، ولا شك أن هذا التمييز مكسب عظيم
للمجتمع المسلم.
ولم
يكن تكسير السفينة أو موت الغلام شرا خالصا، فثمَّ قضاء الله وقدره ولطفه بعباده.
على
المستوى الشخصى – في أحيان كثيرة – أسترجع بعض الذكريات التي لم أسعد بها في
وقتها، ثم أفكر في نتائجها فأجد الأمر مختلفا، فأحمد الله مدبر الكون، ومقدر
الحوادث، الذي يرحم الإنسان الضعيف، ويلطف به، وأقول دائما: لعله خير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق