في أيام الفراعنة كان هناك فلاح طيِّب يعيش مع زوجته وأطفاله في ( وادي
النَّطْرُون ) ، وكان ذلك الفلاح فصيحًا بليغًا .
وكان يسافر في مَوْسِم الحَصاد إلى العاصمة ليبيعَ محصوله ، وفي إحدى
المَرَّات سَافَرَ ومعه حَمِيره تحمل محصوله ، فرآه أحد الموظفين اسمه ( تُحُوتِ
نَخْت ) ، فطَمِعَ فيما يحمله الفلاح، وفكر في حِيلة يأخذ بها ما معه.
وكان الفلاح سَيَمُرُّ من على جِسر بالقرب من بيت ( تُحُوتِ نَخْت ) ، وكان
ذلك الجِسر ضيقًا، وعلى جانب منه قمح لـ ( تُحُوتِ نَخْت ) ، ففرشَ ثيابَه على
الجانب الآخر ، وعندما أقبل الفلاح حَذَّره من أن يَدُوس على ثيابه ، أو أنْ تأكل
حَميره من قمحه .
بدأ الفلاح يعبُرُ الجِسر بِحِرْصٍ شديد ، ويمنع الحميرَ الأكلَ من القمح
قدر ما يستطيع ، ولكن أحد الحمير مَدَ فمه وأكل بعضَ أعواد القمح ، فثار (تُحُوتِ
نَخْت) وضرب الفلاحَ ضربًا شديدًا ، وأخذ كل ما معه من حَمير وما تحمله ، فأخذ
الفلاح يبكي بشدة ، ثم قال له : " سأذهب إلى الوزير ( رِنزي ) لأشكوك ؛ فضربه
بقسوة مرة أخرى ، فقال الفلاح : " إنك تضربني ، وتسرق متاعي ، وبعد ذلك تغتصب
الشَّكَايةَ من فمي ، لكني لن أصمت ، وسوف أشكوكَ إلى الوزير أو الفِرعون حتى
أستردَّ حقي".
وذهب الفلاح إلى الوزير ، وعرض شَكْوَاهُ بكل فَصَاحة وطَلاقة ، فأُعْجِبَ
الوزيرُ ببلاغته ، وقرر أن يرفعَ شأنه إلى الفِرعون ، فقال الفرعون لوزيره :
" لا تُجِبْ شَكْوَاهُ بِسُرْعَةٍ ، واكْتُبْ ما يقوله كُلَّ يَوْمٍ ،
وأرْسِلْهُ لِي ؛ لنستمتعَ بأسلوبه ويكونَ كلامُهُ من الوَثَائق الأدبية
الجَيِّدَة ، ولكن أرْسِلْ له طعامًا كلَّ يَوْم ، دُونَ أنْ يَعْرفَ مَصْدَرَهُ ،
ومُدَّ أسرتَه بما يحتاجون من أموال وطعام " .
وظَلَّ الفلاح الفصيح يَتَرَدَّدُ على الوزير يوميًا دُونَ يَأْسٍ ، يَقِفُ
أمَامَهُ ، ويَصْدَحُ بِشَكْوَاهُ ، ويطلب حَقَّهُ في كلمات بَلِيغَةٍ ، وكان
الوزيرُ قد أمَرَ بِكِتابة ذلك دُونَ أنْ يَشْعُرَ ، حَتَّى بَلَغَتِ الشَّكَاوَى
تِسْعَ خُطَبٍ بَعْدَ تِسْعَةِ أيَّامٍ ، ثمَّ أعلموه أمرَ الفِرْعَونِ ،
وقَرَءُوا عليه الشكاوَى ، ثم أمرَ الوزيرُ بإحضار (تُحُوتِ نَخْت) وعَاقَبَهُ،
وأعطى الفلاح حقوقَه ، وكافأهُ بمكافأةٍ كبيرةٍ .
ومن نماذج ما كتبه الفلاح الفصيح :
" جعلت يا سيدي أبا لليتامى ، وعائلا للأيامى ، وأخا للمحرومين . اسمك على
رأس شرعة العدل ، ونفسك عالية تكبح جماح الظالم ، وتقيم ميزان الحق ، أنصت إلى
شكواي ، واستجب إلى دعائي ، ليعود الحق إلى نصابه ، وارفع عني ما ألم بي من جور
" .
" يا سيدي الرئيس ، أنت الصالح المؤمن ، البار بأرزاق الناس ، كأنك
النيل تخضر به الحقول ، ويحيا به موات الأرض ، في حماك يأمن الناس غائلة المعتدين
، ولا يمنع السائل عن بابك ، لا تستخف بأمري ، ففي رقبتك شكاية الضعفاء ، أنزل
بالمسيء عقابك ، حتى لا يختل ميزان العدالة في يدك ، فتهبط كفة ذنوبك يوم الحساب
" .
" واجبك أن تصغي إلى الشاكي ، وتفصل بين المحتكمين إليك ، وظيفتك
حمايتي من المعتدي ، لا أن تقف إلى جانبه ، أقم من نفسك للفقير سدا يحميه من
الفيضان ، ولا تكن كالسيل الذي يجرفه " .