كان يسمى قبل أن يترجم إلى اللغة العربية باسم: الفصول
الخمسة، وهي مجموعة من قصص ذات طابع يرتبط بالحكمة والأخلاق.
تعود تلك المجموعة القصصية إلى أصول هندية، ثم ترجمت إلى
اللغة الفارسية، ثم ترجمها عبد الله بن المقفع إلى اللغة العربية، ومن قصص تلك
المجموعة: القرد والغيلم، والأسد والثور، والحمامة المطوقة.
من
قصص كليلة ودمنة (القرد والغيلم)
قال دَبْشَلِيمُ الملكُ لبيدبَا الفيلسوف: اضْرِبْ لي
مثلَ الرجلِ الذي يطلبُ الحاجةَ فإذا ظَفِر بها أضَاعها، قال الفيلسوف: إنَّ طلبَ
الحاجة أهونُ من الاحتفاظ بها، ومن ظَفِرَ بحاجة ثم لم يُحسنْ القيامَ بها أصابَهُ
ما أصابَ الغيلمَ.
قال الملكُ: وكيف ذلك؟ قال بيدبا: زعموا أنَّ قردًا كان
ملكَ القِرَدَةِ، وكانَ قَدْ كَبِرَ وهَرِمَ، فوثبَ عليه قردٌ شابٌّ من بيتِ
المملكةِ فتغلّبَ عليه، وأخذ مكانَه فخرجَ هاربًا حتى انتهى إلى السَّاحلِ، فوجدَ
شجرةً من شجرِ التين، فارتقى إليها وجعلها مُقامَهُ، فبينما هو ذاتَ يومٍ يأكلُ من
ذلك التين، إذ سقطت من يده تينةٌ في الماء، فسمع لها صوتًا وإيقاعًا، فجعل يأكلُ
ويرمي في الماءِ، فأطْرَبَهُ ذلك: فأكثر من طرحِ التين في الماء، وثَمَّ غيلمٌ،
كلما وقعت تينةٌ أكلها، فلما كَثُرَ ذلك ظنَّ أنَّ القرد إنما يفعل ذلك لأجله،
فرَغِبَ في مصادقته، وأنِس إليه، وصادقه.
وطالت غيبةُ الغيلم عن زوجته: فجَزِعَتْ عليه وشكت ذلك
إلى جارةٍ لها، وقالت: قد خِفتُ أن يكون قد عرضُ له عارضُ سوءٍ فاغتاله، فقالت
لها: إن زوجك بالساحل قد صادق قردا: فهو مؤاكله ومشاربه، وهو الذي قطعه عنك، ولا
يقدر أن يقيم عندك حتى تحتالي لهلاك القرد، قالت وكيف أصنع؟ قالت لها جارتها: إذا
وصل إليك فتمارضي، فإذا سألك عن حالك فقولي: إن الحكماء وصفوا لي قلب قرد.
ثم إن الغيلم انطلق بعد مدة إلى منزله فوجد زوجته سيئة
الحال مهمومةً فقال لها الغيلم: مالي أراك هكذا، فأجابته جارتها، وقالت: إن زوجتك
مريضة، وقد وصف لها الأطباء قلب قرد، وليس لها دواء سواه، قال الغيلم: هذا أمر
عسير من أين لنا قلب قرد، ونحن في الماء؟ لكني سأحتال لصديقي.
ثم انطلق إلى ساحل البحر: فقال له القرد يا أخي، ما حبسك
عني؟ قال الغيلم: ما حبسني إلا حيائي: فلم أعرف كيف أجازيك على إحسانك إلي؟ وأريد
أن تتم إحسانك إلي بزيارتك (أي في منزلي) فإني ساكن في جزيرة طيبة الفاكهة.
ركب القرد ظهر الغيلم، فسبح به حتى إذا سبح به عرض له
قبح ما أضمر في نفسه من الغدر، فنكس رأسه، فقال له القرد: مالي أراك مهتمًا؟ قال
الغيلم: إنما همي لأني ذكرت أن زوجتي شديدة المرض، ثم توقف به ثانية: فساء ظن
القرد، وقال في نفسه: ما احتباس الغيلم وإبطاؤه إلا لأمر ولست آمنًا أن يكون قلبه
قد تغير لي وحال عن مودتي، فأراد بي سوءًا؛ فإنه لا شيء أخف وأسرع تقلبًا من
القلب، ثم قال للغيلم: ما الذي يحبسك؟ ومالي أراك مهتمًا، كأنك تحدث نفسك مرة
أخرى؟ قال: يهمني أنك تأتي منزلي فلا تجد أمري كما أحب؛ لأن زوجتي مريضة، قال
القرد: لا تهتم فإن الهمَّ لا يغني عنك شيئًا، ولكنِ التمس ما يصلح زوجتك من
الأدوية والأغذية.
قال الغيلم: صدقت، وقد قال الأطباء إنه لا دواء لها إلا
قلب قرد، فقال القرد: وما منعك أن تعلمني عند منزلي حتى أحمل قلبي معي؟ فهذه سنة
فينا معاشر القردة، إذا خرج أحد لزيارة صديق خلّف قلبه عند أهله أو في موضعه، وليس
قلوبنا معنا. قال الغيلم: وأين قلبك الآن؟ قال: خلّفته في الشجرة فإن شئت فارجع بي
إلى الشجرة؛ حتى آتيك به، ففرح الغيلم بذلك وقال: لقد وافقني صاحبي بدون أن أغدر
به.
ثم رجع بالقرد إلى مكانه فلما أبطأ على الغيلم، ناداه:
يا خليلي، احمل قلبك وانزل فقد حبستني، فقال القرد: هيهات فقد احتلت عليَّ
وخدعتني؛ فخدعتك بمثل خديعتك.
من كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع