تقع جزيرة العرب في الجنوب الغربي من قارة آسيا، شمالها العراق والشام، وفي
الشرق منها الخليج العربي، وفي غربها البحر الأحمر، وجنوبها المحيط الهندي.
منذ حوالي مائة وخمسين عاما قبل الإسلام عاش على تلك الأرض جماعة من الناس
عيشة بدائية بسيطة، يرتحلون من مكان لآخر بحثا عن الماء والكلأ، واشتغلوا بالرعي
والتجارة، وكانت لهم علوم ومعارف ساذجة، تشبه الصحراء الشاسعة التي عاشوا فيها
وتأثروا بها، ولم يكن لهم من المدنية والحضارة نصيب يُذكر، ولكنهم برعوا في جانب
مهم من جوانب الرقي الإنساني، وأعني بذلك براعتهم في فنون القول والتعبير عن
مكنونات النفس.
في ذلك الوقت لم يكن للعرب دولة بالمعني المفهوم للدولة، وإنما كانوا
يعيشون في قبائل متفرقة في الصحراء، ولكل قبيلة أعراف تحكمها، وشيخ يُرجع إليه في
الأمور المهمة، وولاء الأفراد إنما يكون للقبيلة: إن أحسنت القبيلة أحسن الفرد،
وإن أساءت أساء، يقول الشاعر:
وما أنا إلا مِن غُزَيَّةَ إن غَوَتْ غَوَيْتُ
وإنْ تَرْشُدْ غُزَيَّةُ أرْشُدِ
وشاع بين تلك القبائل الصراع والنزاع لأتفه الأسباب، ويكفي خلاف بسيط بين
قبيلتين مختلفتين لقيام حرب ضروس تستمر لسنوات طويلة، وقد نشبت حربا (داحس
والغبراء)، و(البسوس) لأسباب تافهة.
معظم العرب كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، وبعضهم عبد النجوم والكواكب،
وقليل منهم اعتنقوا اليهودية والنصرانية، وانتشرت بينهم العادات السيئة، مثل: شرب
الخمر ووأد البنات ولعب الميسر، ومن أجل كل ذلك أطلق على هذا العصر: (العصر
الجاهلي)، وليس المقصود الجهل في مقابل العلم، وإنما المقصود الجهل الذي هو عكس
الحلم، وما يستتبعه من طيش وحروب وصراعات مرجعها العصبية القبلية.
ومع ذلك فقد عُرف عن العرب بعض الخصال المحمودة، مثل: الشجاعة والنجدة
والصبر والوفاء والكرم والمروءة، كما عُرف عنهم براعتهم في فنون الأدب، من شعر أو
نثر، وكانت القبيلة تقيم الاحتفالات والأفراح إذا نشأ فيهم شاب ينظِم الشعر، وكانت
القبائل المجاورة ترسل الوفود إلى تلك القبيلة للتهنئة بهذا الشاعر الجديد، حتى
حدا بهم ذلك الاهتمام إلى إقامة الأسواق الأدبية التي تجتمع فيها مُختلف القبائل
لقول الشعر، وإلقاء الخطب وبقية الألوان الأدبية المعروفة في عصرهم، ومن تلك
الأسواق (عكاظ) و(ذو المجاز) و(ذو المِجَنَّة).
كان شعر العرب صورة صادقة لحياتهم، فقد وصفوا الجبال والوديان، وسجلوا في
شعرهم حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم وأحداثهم المهمة، ومن هنا أَطلق النقاد على الشعر
أنه (ديوان العرب).
وقد اتفق النقاد على أن أفضل ما قيل في الشعر في ذلك العصر سبع قصائد طوال،
أُطلق عليها: المعلقات السبع، وامتازت تلك القصائد بقوة اللغة وجزالة ألفاظها،
وبراعة أسلوبها، وبعضهم ذكر أنها عشر معلقات، وسُميت بهذا الاسم لأنها كانت تعلَق
بأذهان السامعين، وقيل أنها كانت تُكتب بماء الذهب وتُعلق بأستار الكعبة؛ احتراما
لها وتقديرا لقيمتها.
نظَم الشعراء الجاهليون في شتى مناحي الحياة: في الوصف، والغزل، والرثاء،
والمدح، والحكمة، والفخر، ومن أمثلة شعرهم:
وصف امرئ القيس (وهو أحد شعراء المعلقات) لليل قائلا:
وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى
سُدولَهُ
فقلتُ لهُ لمَّا تمطَّى بصُلبهِ ألا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انجَلِ |
|
عليَّ بأنواع الهمومِ
ليبتلي
وأردف أعجازًا وناءَ بكَلْكَلِ بصبحٍ وما الإصباحُ منك بأمثلِ |
ومما قاله عنترة (وهو أحد شعراء المعلقات) في الفخر قوله:
خُلِقتُ من الحديدِ أشدَّ قلبًا
وفي الحربِ العوانِ وُلدتُ طفلًا |
|
وقدْ بَلِيَ الحديدُ وما
بليتُ
ومنْ لبنِ المعامعِ قد سُقِيتُ |
ومن الفخر بالقبيلة شعر عمرو بن كلثوم (وهو أحد شعراء المعلقات):
ونشربُ إن وردْنَا الماءَ صفوًا
إذا ما المَلْكُ سامَ الناسَ خسفًا لنا الدنيا ومَن أمسى عليها بغاةً ظالمين وما ظُلمنا ملأنا البرَّ حتى ضاقَ عنَّا إذا بلغَ الرضيعُ لنا فطاما |
|
ويشربُ غيرُنَا كَدَرًا
وطينًا
أبينا أنْ نُقِرَّ الذُّلَ فينا ونبْطِشُ حينَ نبطشُ قادرينا ولكنَّا سنبدأُ ظالمينا وماءَ البحرِ نملؤه سفينا تخِرُّ له الجبابرُ ساجدينا |
وبرعت الخنساء في الرثاء، ورثت أخاها صخرا بقصائد رائعة، ومما قالته:
يُذَكِّرني طلوعُ الفجرِ
صخرًا
ولولا كثرةُ الباكينَ حولي |
|
وأذْكُره لكلِّ غروبِ شمسِ
على إخوانِهم لقتَلْتُ نفسي |
وكذلك تنوعت ضروب النثر، من: خُطب، ووصايا، وحِكَمٍ، وأمثال، ومن الوصايا
المشهورة وصية أمامة بنت الحارث لابنتها عند زواجها : " أي بُنيةُ، إنَّ
الوصيةَ لو تُركت لفضلِ أدبٍ تُركت لذلك منك، ولكنها تذكرةٌ للغافل ومعونةٌ
للعاقل، ولو أنَّ امرأةً استغنت عن الزوج لغِنَى أبويها وشدَّةِ حاجتِهما إليها –
كُنتِ أغنى النَّاس عنه، ولكنَّ النساءَ للرجالِ خُلقن، ولهنَّ خُلق الرجال ..".
هكذا ذاع صيت العرب في فنون الأدب، وضرب بهم المثل في الفصاحة والبلاغة،
وما كان تحدي القرآن لهم أن يأتوا بسورة من مثله إلا شهادة منه بقوة بيانهم
وفصاحتهم، فما كان للقرآن أن يتحدى ضعيفًا أو عاجزًا، وإنما يستمد التحدي فاعليته
من قوة المخاطَبين وبراعتهم فيما تحداهم به.
وبعد انتشار الإسلام في الجزيرة العربية كان من المتوقع أن يُحجم الناس عن
قول الشعر بعد إخفاق كبار الشعراء الجاهليين أمام تحدي القرآن لهم، ولكنَّ هذا لم
يحدث؛ استمر الشعراء في قولهم الشعر، وأقرَّهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) على
نظمه في بعض الأغراض، واستمع إلى مدح كعب بن زهير له فأعجبه شعره، وعفا عنه، وكان
حسان بن ثابت (رضى الله عنه) شاعر الرسول (صلى الله عليه وسلم) يدفع عن المسلمين
هجاء المشركين ويُعلي من قيم الإسلام وخصاله.