تلك الحكاية سمعتها وأنا صغير من أختي الكبرى، منذ أكثر من خمسة وثلاثين
عاما، وهي شديدة الشبه بمسرحية (الملك لير) لشكسبير، وقد تذكرتها بعد تلك
السنوات الطويلة، فرغبت في إعادة صياغتها؛ لما فيها من فوائد عظيمة، وقيم إنسانية
نحتاج إليها في تلك الأيام.
بعد وفاة زوجته نذر رجل حياته لتربية بناته الثلاث، فأظلهن بحبه وحنانه،
وعمل على إسعادهن بكل طريق ممكن، وكانت البنات يحببنه، ويرون في عطفه وشفقته
تعويضًا لهنَّ عن حنان الأم وعطفها.
ذات يوم جمع الأب بناته، وسأل كل واحدة منهن عن مدى حبهن له، فقالت الكبرى:
أحبك يا أبي أكثر من حبي الدنيا كلها، بما فيها من أشجار وارفة، وأزهار زاهية،
ومياه جارية، وسماء صافية، أحبك يا أبي أكثر من كل ذلك.
وقالت الوسطى: أحبك يا أبي أكثر من نفسي، فأنت نور عيني التي أرى بها
الدنيا، ينبض قلبي فأحس أنَّ كل نبضة من نبضاته تذكرني بحبي لك، أحبك يا أبي أكثر
من نفسي التي بين جنبيّ.
أما الصغرى فقد عُرِف عنها حبها للملح حبا شديدا، وكانت تُكثر منه في
طعامها، وكانت أكثرهن حبا لأبيها، وعندما سألها أبوها عن حبها له، أسرعت وقالت:
أحبك يا أبي أكثر من حبة الملح.
فوجئ الأب بإجابة ابنته الصغرى، وقد توقَّع منها أن تحسن القول، كما فعلت
أختاها، ولكنها لم تفعل، واكتفت بقولها: أحبك يا أبي أكثر من حبة الملح.
غضب الأب، وطرد ابنته الصغرى من بيته، وجعلها تواجه مصيرها المجهول، مشردة
في الطرقات والأزقة، واكتفى بابنتيه
الكبرى والوسطى.
كانت الفتاة حزينة لما أصابها من أحبِّ الناس إليها، وأخذت تؤنب نفسها: لمَ
لمْ تعبر بشكل أفضل عن حبها لأبيها! كانت تأكل بقايا الطعام التي يرميها الأغنياء
للفقراء، فإذا أقبل الليل نامت على أحد جانبي الطريق، وظلت على تلك الحال حتى
اتسخت ملابسها، ونحل جسمها، وشحب وجهها، وبدت عليها علامات الضعف والهزال، ثم
جاءها الفرج من الله.
كان من عادة أمير البلاد الشاب الخروج في الصباح للتنزه في طرقات المملكة،
وبينما هو في تجواله إذا به يرى شابة صغيرة تأكل طعامها من بقايا طعام الناس، وقد
بدا عليها الضعف الشديد، فرقَّ لها ولحالها، فأخذها إلى القصر، وأمر الخدم
بالاعتناء بها، وبنظافتها وإطعامها أشهى أنواع الطعام.
في المساء لم يصدق الأمير عينيه؛ إذ زال عن الفتاة الغبار وعلامات الضعف
والشحوب، فرأى فتاة فائقة الجمال، ابتسامتها أجمل ما رأى، ووجهها كصفاء السماء حين
تخلو من الغيوم، ومع ذلك فقد لمح في نظرة عينها حزنا وانكسارا، فسألها عن حكايتها،
فحكت له ما حدث لها مع أبيها، وكيف أنه طردها وهي المحبة له، واكتفي بأختيها
الكبرى والوسطى.
أعجب الأمير بالفتاة، وفاتح أباه الملك في الزواج منها، فوافق الملك،
وتزوجت الفتاة من الأمير، وأظلت السعادة بيتهما، ولكنها كانت تشعر بالقلق من حين
لآخر على أبيها.
مرت سنوات طويلة، وحلَّت الشيخوخة بالأب، ولم تحتمل البنتان الكبرى والوسطى
أباهما، الذي كان يعتمد عليهما اعتمادا كبيرا في طعامه وشرابه وحياته كلها، فقررا
طرده من البيت، ليبحث له عن مأوى آخر بعيدا عنهما، أو يموت في هدوء، وفي الشارع
ندم الأب، وشعر بالأسف لأنه طرد ابنته الصغرى التي كانت تحبه أكثر من أختيها،
وتساءل في نفسه عن مصيرها، وماذا فعلت بعدما طردها؟ وعندما لم يجد إجابة عن سؤاله
خلد إلى النوم على أحد جانبي الطريق.
كان من عادة الأميرة (الابنة الصُغرى) أن تتمشى كل صباح في طرقات المملكة،
فوجدت عجوزا ينام في المكان نفسه الذي كانت تنام فيه عندما طردها أبوها، فاقتربت
منه، وسألته عن حاله، وكم كانت دهشتها عندما رأت أباها وقد ظهرت عليه صروف الدهر،
فضعف بصره، وانحنى ظهره، ووهنت قوته، أما هو فلم يعرف ابنته، ولم يتصور للحظة
واحدة أن هذه الأميرة الجميلة التي تبدو عليها أمارات الثراء والجمال هي ابنته
الصغرى التي طردها منذ سنين طويلة.
أخذت الفتاة الرجل العجوز إلى القصر، وأعدت له مائدة فاخرة مليئة بأشهى
الأطعمة، وطلبت منه أن يأكل، فشرع الرجل في الأكل ثم توقف، فطلبت منه أن يأكل،
فتناول لقمة ثم توقف، وهنا سألته الأميرة: ألا يعجبك الطعام؟ فقال لها الرجل: إن
الطعام شهي ولذيذ، ولكنه بلا ملح، فقالت له الأميرة: وهل الملح مهم للطعام؟ فقال
لها: نعم، لا يُؤكل الطعام من دون ملح، فهو مهم للطعام ولحياتنا كلها، فقالت له
الأميرة: عرفتَ الآن أهمية حبة الملح! دقق الرجل النظر في وجه الأميرة،
وعرف أنها ابنته الحبيبة، واعتذر لها عما بدر منه في حقها، ثم حكى لها حكايته مع
أختيها، فقالت الأميرة: لا تحزن يا أبي، أنت الآن في أمن؛ فأنت أبي الذي أحبه أكثر
من أي شيء في الدنيا، نور عيني، ودنياي التي أحبها وأعيشها، أنت أبي الذي أحبه
أكثر من حبة الملح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق