تشبه الحضارات
والأمم في تكوينها ومراحلها حياة الإنسان إلى حد كبير: يبدأ الإنسان طفلا ضعيفا،
يعتمد في غذائه وحركته على أمه بصورة كاملة، ثم يشب شيئا فشيئا حتى يشتد عوده
ويقوى صلبه، وفي ذروة قوته يبدأ عطاؤه للآخرين، ويتحمل مسئولية من هم أضعف منه،
وبعد فترة من العطاء يشيخ ويهرم لتنتقل القوة إلى جيل جديد.
بدأت الحضارة
الإسلامية معتمدة – إلى حد بعيد – على ترجمة علوم اليونان والهند، وشهدت تلك
البدايات نشاطا ملحوظا من المترجمين، وتشجيعا قويا من الخلفاء والأمراء، ثم بدأت
بعد ذلك مرحلة جديدة أضاف فيها العلماء المسلمون إلى علوم اليونان علوما ومعارف
أخرى، وكانت لهم مناهجهم ومخترعاتهم التي أبهرت أوروبا بعد ذلك، فنهل العالم كله
من علوم المسلمين، وكانت بغداد والعواصم العربية محط أنظار طلاب العلم في أوروبا،
وبعد سلسلة من الحروب المجهدة فترت النزعة العلمية عند المسلمين، لتشرق الحضارة من
جديد ولكن هذه المرة من الغرب حيث أوروبا وأمريكا.
وهذا نص من
كتاب : قصة الحضارة ، لويليام جيمس ديورانت يتحدث فيه عن بدايات الحضارة الإسلامية
المتمثلة في حركة الترجمة، يقول المؤلف:
لقد أدرك
الخلفاء تأخر العرب في العلم والفلسفة كما أدركوا ما خلفه اليونان من ثروة علمية
غزيرة في بلاد الشام، ولقد كان بنو أمية حكماء إذ تركوا المدارس الكبرى المسيحية،
أو الصابئية، أو الفارسية، قائمة في الإسكندرية، وبيروت، وإنطاكية، وحران،
ونصيبين، ولم يمسوها بأذى، وقد احتفظت هذه المدارس بأمهات الكتب في الفلسفة
والعلم، وما لبثت أن ظهرت ترجماتها إلى اللغة العربية على أيدي النساطرة المسيحيين
أو اليهود، وشجع الأمراء من بني أمية وبني العباس هذه الاستدانة العلمية المثمرة،
وأرسل المنصور، والمأمون، والمتوكل الرسل إلى القسطنطينية وغيرها من المدن
الهلنستية- وأرسلوهم في بعض الأحيان إلى أباطرة الروم أعدائهم الأقدمين- يطلبون
إليهم أن يمدوهم بالكتب اليونانية، وخاصة كتب الطب أو العلوم الرياضية، وبهذه
الطريقة وصل كتاب إقليدس في الهندسة إلى أيدي المسلمين.
وأنشأ المأمون
في بغداد عام (830) م بيت الحكمة وهو مجمع علمي، ومرصد فلكي، ومكتبة عامة، وأنفق
في إنشائه مائتي ألف دينار، وأقام فيه طائفة من المترجمين وأجرى عليهم الأرزاق من
بيت المال، ويقول ابن خلدون عن بيت الحكمة: إن الإسلام مدين إلى هذا المعهد العلمي
باليقظة الإسلامية الكبرى التي اهتزت بها أرجاؤه .
ودامت أعمال
الترجمة من عام (750) إلى(900) من الميلاد، وفي هذه الفترة عكف المترجمون على نقل
أمهات الكتب من السريانية، واليونانية، والسنسكريتية. وكان على رأس أولئك المترجمين
المقيمين في بيت الحكمة طبيب نسطوري هو حنين ابن إسحق (809 - 873)، وقد ترجم وحده-
كما يقول هو نفسه- إلى اللغة السريانية مائة رسالة من رسائل جالينوس ومدرسته
العلمية، وإلى اللغة العربية تسعاً وثلاثين رسالة أخرى، وبفضل ترجمته هذه نجت بعض
مؤلفات جالينوس من الفناء، كما ترجم كتب المقولات والطبيعة، والأخلاق الكبرى
لأرسطو، وكتب الجمهورية، وطيماوس، والقوانين لأفلاطون؛ وعهد أبقراط، وكتاب
الأقرباذين لديوسقريدس. وكتاب الأربعة لبطليموس، وترجم العهد القديم من الترجمة
السبعينية اليونانية، وكاد المأمون أن يُفلس حين كافأ حنين على عملهِ هذا بمثل وزن
الكتب التي ترجمها ذهبًا.
ولم يحل عام (850)
بعد الميلاد حتى كانت معظم الكتب اليونانية القديمة في علوم الرياضة والفلك والطب
قد تُرجمت إلى اللغة العربية.
إن انتقال العلوم والفلسفة انتقالًا مستمراً من مصر، والهند، وبابل، عن
طريق بلاد اليونان وبيزنطية، إلى بلاد الإسلام في الشرق وفي أسبانيا، ومنها إلى
شمالي أوروبا وأمريكا، نقول إن هذا الانتقال لمن أجلِّ الحوادث وأعظمها شأنًا في
تاريخ العالم.