الاثنين، 26 يناير 2015

الهجرة النبوية


بعد بيعة العقبة الثانية رغَّب الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) المسلمين في الهجرة إلى يثرب، فقال لهم: "إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا"، فبدأ المسلمون في الهجرة سرًّا، وبقي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينتظر الإذن من الله بالهجرة، وكذلك ظلَّ أبو بكر بمكة بعدما استأذن النبي (صلى الله عليه وسلم) في الهجرة فقال له: "لَا تَعْجَلْ لَعَلَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا"، وكان أبو بكر يأمل أن تكون هجرته مع النبي ( صلى الله عليه وسلم)، وأعدَّ لذلك راحلتين وجهزهما، أما قريش فقد كانت ترقب - في قلق بالغ - هجرة المسلمين إلى يثرب، وتُضيِّق السبل أمامهم وتُجرِّدُ المهاجرين من أموالهم وأمتعتهم.  
لم يطُلْ انتظار الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فقد جاءه الإذن بالهجرة بعد شهرين ونصف – تقريبا – من بيعة العقبة الثانية؛ وذلك عقب الاجتماع المعروف بين قادة قريش في دار الندوة؛ للوصول إلى قرار حاسم في شأن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وفي ذلك الاجتماع ناقشت قريش مجموعة من الاقتراحات لمواجهة الدين الجديد، وكان من تلك الاقتراحات حبس النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة حتى يموت، أو نفيه خارج مكة، ولكنَّ هذين الاقتراحين لم يلقيا قبولا، أما الذي وافقوا عليه فهو اقتراح أبي جهل عمرو بن هشام الذي قال: "أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابًّا جَلِيدًا نَسِيبًا، ثُمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَعْمِدُوا إلَيْهِ، فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتُلُوهُ، فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ"، وقد وافق الحاضرون على هذا الرأي، وتواعدوا على كتمان ما خططوا له.
قال الله تعالى عن هذا الاجتماع: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
أطلع الله تعالى نبيه على ما حدث بدار الندوة، وطلب جبريل (عليه السلام) من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ألا يبيت بفراشه الليلة، وذهب في وقت الظهيرة إلى بيت أبي بكر وأخبره بالاستعداد للهجرة، وفرح أبو بكر فرحا شديدا لصحبته لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم عاد الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى بيته لإعداد ترتيبات الهجرة، وأمر عليا أن يبيت في فراشه تلك الليلة.
كان من عادة النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه ينام في أول الليل، ثم يستيقظ في منتصفه للخروج عند الكعبة والصلاة هناك، و كان فتيان قريش بقيادة أبي جهل يحاصرون بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) وينتظرون خروجه؛ ليقتلوه.
وبالفعل خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) وسط هؤلاء المحاصرين دون أن يشعروا به، وكان يضع التراب على رءوسهم، تاليا قوله تعالى: (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9)).
بعد فترة قصيرة جاءهم رجل من مكة وسألهم: مَا تَنْتَظِرُونَ هَاهُنَا؟ قَالُوا: مُحَمَّدًا، فأخبرهم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج أمامهم ووضع على رءوسهم جميعا التراب، فتحسسوا رءوسهم وأيقينوا صدق كلام الرجل، وثارت ثائرتهم.
في تلك الأثناء كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه أبو بكر الصديق قد خرجا من بيت أبي بكر في اتجاه اليمن – خلافا للمعتاد – حيث جبل ثور على بعد خمسة أميال من مكة، وهناك سلما الراحلتين للدليل الذي اتفقا معه على مرافقتهما إلى يثرب، وهو عبد الله بن أريقط، وكان مشركا، استأمناه فكان أمينا، وتواعدا معه على اللقاء بعد ثلاثة أيام حتى تهدأ قريش ويملَّ الباحثون عنهما، فأخذ الراحلتين وانصرف.
قرر الرسول (صلى الله عليه وسلم) المبيت في غار في الجبل عُرِف - بعد ذلك - بغار ثور، وقبل دخولهما دخل أبو بكر أولا ليتأكد من خلوِّ الغار من الحيات والعقارب والحيوانات، ثم دخل الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومكثا في الغار ثلاث ليال، قبل أن يستأنفا المسير.
جُنَّ جنون سادة قريش، وحاولوا بشتى السبل معرفة مكان الصاحبين، أخرجوا عليا عند الكعبة وضربوه حتى يرشدهم إلى مكانهما فلم يُجْدِ معه شيء، ولطم أبو جهل أسماء بنت أبي بكر على وجهها ليعرف مكانهما فلم تُفصح، ثم أعلنت قريش عن مكافأة قدرها مائة ناقة لمن يحضرهما حيين أو ميتين، فجدَّ فرسان قريش في البحث في جميع الاتجاهات، حتى وصلوا إلى غار ثور، وساعتها قال أبو بكر: " يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيرد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم): ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا".
بعد الليلة الثالثة جاءهما ابن أريقط بالراحلتين وهاجروا الثلاثة ومعهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وكان من فطنة الدليل (عبد الله بن أريقط) أنه توغَّل جنوبا في اتجاه اليمن، ثم اتجه غربا ناحية البحر الأحمر ليسلك طريق الساحل شمالا، وهو طريق لم تعهده قريش.
وصلت الأنباء إلى المسلمين في يثرب بخروج النبي (صلى الله عليه وسلم) من مكة، فكانوا في كل يوم يخرجون إلى أطراف المدينة انتظارا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى الظهيرة، ثم يعودون، وفي يوم وصول النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة كانوا قد خرجوا صباحا، ثم عادوا مع اشتداد حرارة الشمس، حتى سمعوا صوت أحد اليهود ينادي بصوت عال: يا معشر العرب، هذا نبيكم الذي تنتظرون، فازدحمت طرقات المدينة بالمسلمين مكبرين ومهللين، وارتجت البيوت بالحمد والتسبيح، وحدثت بالمدينة جلبة وحركة، وصارت فتيات الأنصار ينشدن:
طلع البدر علينا
وجب الشكر علينا
أيها المبعوث فينا


من ثنيات الوداع
ما دعا لله داع
جئت بالأمر المطاع

دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يثرب في ربيع أول، بعد تسعة أيام قضاها في الطريق، وعُرفت منذ ذلك اليوم بمدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، واختصارا بالمدينة.
ترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مكة فأظلم منها كل شيء، ودخل المدينة فأضاء منها كل شيء.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد.